لا حديث في الكويت هذه الأيام إلا عن تعديل الدوائر الانتخابية، فالاقتراحات تتأرجح بين جعلها خمساً أو عشراً أو إبقاء ما كان على ما كان، وهناك سجال من التصريحات المتبادلة بين أنصار كل وجهة، وندوات خطابية بأقلية، ومسيرات راجلة محدودة، ومقالات تعجز العد والإحصاء، ولا يزال الأمر متفاعلاً الى درجة الغليان من سب وشتم وشطح ونطح الى أن يحسم إن كان هناك نية أصلاً لحسمه! ولأنني لا أملك جديداً أضيفه إلى ما قيل من محاسن الخمس ومزايا العشر ومآثر الخمس والعشرين فإنني أربأ بقارئ مقالتي ان يسمع حديثاً مكرراً لا جدة فيه، وحسب الكاتب ان يكسر قلمه أو يترك المساحة المحجوزة لمقالته بيضاء ناصعة، فذاك لعمري خير مما يفعله كثيرون من اللت والعجن وازعاج القراء بكتابات منقولة أو مسروقة أو مسبوقة!
كنت اتساءل قبل هذه الضجة ولا أزال عن سبب تسمية المناطق الانتخابية بالدوائر، فلست أدري تحديداً ما صلة الدائرة هذا الشكل الهندسي الجميل بالمنطقة الانتخابية التي أسكنها، فحينما انظر الى الرقعة التي تشغلها من خريطتنا الصغيرة اجدها لا تشبه الدائرة في شكلها البتة، فلم لا تسمى مثلثاً أو مربعاً مثلاً كما كان يفعل المعلق الرياضي الاذاعي قديماً حين يقسم ملعب كرة القدم الى مربعات ثمانية محاولاً بذلك تقريب الصورة للمستمع الذي لا يرى شيئاً سوى صوت المذيع!
وبتتبع تاريخ مصطلح الدائرة نجد انه قد اجتلب في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، إذ كانت تسمى وزارة الداخلية قبل تأسيسها بـ «دائرة الشرطة والأمن العام»، ويبدو ان مصطلح الدائرة راق للمسؤولين آنذاك، إذ كانت هناك دائرة للأيتام وثانية للجمارك وثالثة للمعارف.
المشكلة تكمن في ان للدائرة مدلولاتها التي تثير التشاؤم وتنذر بسوء الطالع، فالدائرة في اللغة تعني الهزيمة والسوء، يقال: دارت عليه الدوائر أي نزلت به الدواهي، وقال تعالى في حق المنافقين "... وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ... " (التوبة آية 98)، وفسّرت الدوائر هنا بالموت أو القتل، وقال جل وعلا: " ...عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ..." (الفتح الآية 6).
وقال الشاعر:
قضى الله أن البغي يصرع أهله .... وأن على الباغي تدور الدوائر
ومع هذا، فإن مصطلح الدائرة يجد له ما يسوّغه من الواقع الانتخابي المر بما يتفق مع الدلالات اللغوية المزعجة المتقدمة، فالمرشح الانتخابي يمارس حركة الدوران المستمر على الدواوين ومجالس العزاء وخيام الأفراح، فتراه في حركة دائرية دؤوبة لا يكل ولا يمل بغية استمالة الناخبين للتصويت له، وحين ينجح في الوصول الى قبة البرلمان فإن هواية الدوران تتجلى في صور جديدة تؤكد المهارة والانسيابية التي يتمتع بها النائب الدائري، فهو يواصل تدوير المواقف والانتقال من مصلحة الى أخرى بما يكفل له حلب البقرة لدورة برلمانية كاملة فلا يدع ضرعها إلا بعد ان ينشف ويجف، وبالمناسبة فإن الدائرة في اللغة ايضاً تطلق على الخشبة التي تدور حولها البقر في الساقية!
وأما الناخب البائس فإنه يصاب بالدوار من متابعة تقلبات هذا النائب البهلواني، ويكتشف متأخراً السر في نعت النائب نفسه أيام الانتخابات بـ «ابن الدائرة»! حقاً انها دائرة سوء تلك توصل مثل هؤلاء إلى مقاعد البرلمان!